خارج إطار المؤشرات المالية والانتقال الى فكر الاستدامة
كتب - دكتور سامر إبراهيم المفلح
في السنوات الأخيرة يتكرر مصطلح الاستدامة كممارسة فضلى وهدف تسعى له مختلف الحكومات والمؤسسات، وعادة ما يكون مصطلح الاستدامة مصاحبًا للمصطلحات ومفردات أخرى، فنسمع عن مفهوم التنمية المستدامة، والاستدامة البيئية، ومصادر الطاقة المستدامة، والبناء المستدام، وغيرها من المفاهيم التي في جوهرها تركز على تحقيق شكل من أشكال الاستدامة، والاستدامة بالنسبة للبشر هي القدرة على حفظ نوعية الحياة التي يعيشها على المدى الطويل، وهذا بدوره يعتمد على حفظ العالم الطبيعي والاستخدام المسؤول للموارد، بحيث أن مكتسبات جيل يعيش اليوم لن تكون على حساب أجيال قادمة، من حيث توفر الموارد والبيئة والظروف المناسبة للعيش.
فالتوسع في الإنفاق في دولة ما أو الاقتراض أو الخصخصة وبشكل كبير وغير مدروس، قد يولّد طفرة اقتصادية لفترة قصيرة يتمتع بها الجيل الحالي، فإذا كان هذا الإنفاق أو الاقتراض غير مستدام وغير مدروس، ستتحمّل عقباته الاقتصادية الأجيال القادمة، ذات المفهوم يمكن عكسه على البيئة فعند استخدام تقنيات ملوثة للبيئة رخيصة الثمن لتوفير النفقات، أو عند ممارسة الصيد الجائر للحيوانات والأسماك قد يكون لهذه الممارسات فوائد اقتصادية على المدى القصير للجيل الحالي، ولكن سيكون لها تبعات بيئية ستتحمّلها الأجيال اللاحقة.
ومن الناحية الاقتصادية فإن المؤسسات والشركات تاريخيًا كانت تركز بشكل كبير على أهداف اقتصادية ربحية بحتة تحت مفهوم "صافي الدخل"، أو قد يُشار إليه أيضًا باسم "المحصلة النهائية" أو "صافي الربح" أو "صافي الكسب"، حيث تُفصح الشركات المساهمة العامة عن قوائمها المالية بشكل ربعي (كل ثلاثة شهور)، وعن نتائج أعمالها السنوية من خلال تقريرها السنوي، والذي يبيّن صراحة صافي دخل الشركة المُتحقِّق من خلال "قائمة الدخل الموحدة"، فالتركيز على الجوانب المالية والربحية هو أهم الجوانب الذي يعكس مدى نجاح الشركات والمؤسسات.
وفي عام 1994 صاغ البريطاني جون إلكينغتون فلسفة أكثر شمولية من أجل قياس أداء الشركات تحت مفهوم الحصيلة الثلاثية، أو خط الأساس الثلاثي (Triple Bottom Line)، أو كما يُعرف بـ TBL وذلك من خلال إضافة القيم الاجتماعية والبيئية إلى النتائج الاقتصادية الربحية التقليدية لقياس أداء شركة أو نجاح تنظيم، حيث اعتمدت بعض المنظمات هذا الإطار غير الإلزامي لتقييم أدائها في منظور أوسع لخلق قيمة تجارية أكبر.
وتحت هذا المفهوم تركز الشركات على دورها الاقتصادي من حيث الأرباح المتحققة سنويًا، وتوقعات الأداء الاقتصادي للسنوات القادمة، وأيضًا دورها في الحفاظ على البيئة من خلال التقليل من التلوث وترشيد استخدام الطاقة والمياه، والاعتماد على المصادر المتجددة لتوليد الطاقة، وكذلك تهتم بالبعد الاجتماعي سواء أكان دورًا اجتماعيًا تجاه موظفيها، من خلال تدريبهم والاحتفاظ بهم وتقديم المنافع المناسبة لهم وتحقيق التوازن على مستوى النوع الاجتماعي، أو زبائنهم من خلال قنوات التواصل مع العميل والمسؤولية المباشرة تجاهه، أو المجتمع ككل من خلال تطبيق مفاهيم المسؤولية المجتمعية.
اليوم يوجد العديد من المبادرات والمعايير من أجل الترويج لمفهوم الاستدامة في أداء المؤسسات والشركات، وضرورة النظر طويل الأمد لنتائج الأعمال وأثرها على البيئة والمجتمع ككل، بالإضافة إلى الاهتمام بالنتائج الاقتصادية والربحية، وحتى النتائج الربحية يمكن تقديمها أيضًا بشكل يحقيق أثر أكبر على المستوى طويل الأمد والمستوى الكلي للاقتصاد الوطني أو العالمي، كالمساهمة في تقليل الفقر والبطالة وتحقيق النمو والوصول إلى الفئات المهمّشة، حيث تشجع هذه المبادرات والمعايير المؤسسات والشركات بإصدار تقارير استدامة دورية لأعمالها، ليغطي هذا التقرير النتائج والأثر الاقتصادي والبيئي والاجتماعي لأعمال المؤسسات والشركات ضمن إطار كلي ممنهج طويل الأمد.
ولعل من أهم المعايير المُتبعة لإصدار تقارير الاستدامة لأعمال مختلف المنظمات، هي المعايير الواردة في الأدلة الاسترشادية الصادرة عن المبادرة العالمية لإعداد التقارير (GRI)، وهي منظمة دولية مستقلة مقرها الرئيس في أمستردام/هولندا معنية بإعداد المبادئ التوجيهية لتقارير الاستدامة منذ عام 1997، وتعمل هذه المنظمة على مساعدة الأعمال والحكومات والمؤسسات على إدراك وإعلان تأثر أعمالها على مواضيع رئيسة مرتبطة بالاستدامة وفق مؤشرات ومعايير واضحة، اليوم تصدر تقارير الاستدامة وفق هذه المعايير في أكثر من 100 دولة حول العالم، كما أن المؤسسات الكبرى العالمية تعمل على إصدار تقارير استدامة لها بشكل دوري، إذ إن 93% من أكبر 250 شركة في العالم تصدر تقارير استدامتها.
يوجد اليوم نجاحات تحت هذا المفهوم في المملكة أيضًا، فقد قامت مجموعة من المؤسسات والشركات الأردنية الكبرى بإعداد تقرير استدامة لها كالبنك العربي على سبيل المثال، والذي يصدر تقارير استدامته بشكل دوري منذ فترة من الزمن، أما بالنسبة للمؤسسات الحكومية فإن المؤسسة العامة للضمان الاجتماعي تعتبر الأولى ضمن المؤسسات الحكومية ذات الاستقلال المالي، التي أصدرت تقريرًا للاستدامة خاصًا بها، إذ إن مفهوم الاستدامة يتوافق بشكل كبير مع أهداف المؤسسة.
وقد أصدرت بورصة عمان الدليل الإرشادي حول إعداد تقارير الاستدامة العام الماضي بهدف نشر الوعي بين الشركات المُدرجة في البورصة بأهمية الاستدامة والفوائد التي تعود عليها وعلى كافة الأطراف ذات العلاقة، ويتوقع بعض الخبراء أن تقارير الاستدامة ستصبح إجبارية للمؤسسات والشركات خلال العشر سنوات القادمة في بعض الدول. اليوم نحن بحاجة ماسة إلى نشر فكر وثقافة الاستدامة في جميع الاستراتيجيات والسياسات التي تتبناها الحكومات والمؤسسات وشركات القطاع الخاص والأفراد، ونتساءل هل السياسات الحكومية المتبعة حاليًا تنسجم مع هذا المفهوم أو الفكر؟ وهل مكتسبات الأجيال السابقة أو الجيل الحالي هي موزعة بعدالة أم ستكون على حساب أجيال المستقبل؟.
وبالنظر إلى السياسات الاقتصادية المتبعة حاليًا، فإن نتائجها على المستوى المتوسط والبعيد قد لا تخدم النتائج الكلية المتعلقة بتقليل الفقر والبطالة، كما أن بعض السياسات البيئية الأخيرة لا تعطي أفضلية كبيرة للتكنولوجيا الصديقة للبيئة، خصوصًا قرار الحكومة بوقف إعفاء السيارات الكهربائية من الضريبة الخاصة البالغة 25% في نهاية العام 2018، ووقف منح تقديم الموافقات لمشاريع الطاقة المتجددة لأي مشروع تزيد استطاعته عن 1 ميجاوات مؤقتًا، وأيضًا هناك تراجع لدور الحكومة في بعض الجوانب الاجتماعية المتعلقة بتوفير الدعم للسلع الأساسية، بالنتيجة نحن بحاجة فعلًا إلى نهج شامل ومستدام خارج إطار البعد المالي البحت يراعي الجوانب البيئية والاجتماعية والجوانب الاقتصادية على المدى البعيد، والأثر المنشود طويل الأمد بتقليل نسب الفقر والبطالة وتحقيق التنمية المستدامة.