هل الاستراتيجيات الاجتماعية كافية لمجابهة الفقر؟
كتب - دكتور سامر إبراهيم المفلح
رعى دولة رئيس الوزراء مؤخراً إطلاق الاستراتيجية الوطنية للحماية الاجتماعية 2019-2025 والتي تهدف إلى بناء منظومة شاملة للوقاية والحد من الفقر، من خلال برامج وخدمات متكاملة تساعد الأسر الفقيرة والمهمشة على التجاوب مع مختلف الأزمات، وصولًا الى الاعتماد على الذات والابتعاد عن الانزلاق تحت خط الكفاف وتمكينها اقتصاديا.
وتركز منظومة الحماية الاجتماعية المقترحة من خلال الاستراتيجية التي تم إطلاقها على الأدوار التكاملية بين مختلف الجهات الحكومية وغير الحكومية، كما تسعى إلى خلق فرص العمل المناسبة واللائقة وتتبنى عنصر التمكين لهذه الأسر لإخراجها من آفة الفقر والبطالة.
وقد بدا واضحًا أن الاستراتيجية أيضا تهتم في محاورها على تأمين الرعاية الصحية والتعليمية للفئات المهمشة من أجل تقليل احتمالات الفقر المتوارث عبر الأجيال، كما تسعى في مضمونها إلى الحد من معدلات الفقر متعدد الأبعاد، والذي يشمل أيضا عناصر غير مادية مثل ضعف التحصيل التعليمي أو تراجع الحالة الصحية وغيرها من المؤشرات غير المادية.
وبالنظر إلى الاستراتيجية المقترحة والطموحة التي تم تقديمها كأحد أهم الأدوات للتقليل من مؤشرات الفقر في المملكة، والتي تعكس صدق الحكومة في تأمين مستويات مرتفعة من الحماية الاجتماعية، إلا أنها لا تشكل وحدها الحل الوحيد لمجابهة خطر العوز والبطالة، فالنموذج والنهج الاقتصادي الذي تتبعه الدولة والسياسات الاقتصادية المرتبطة به لها أيضًا دور كبير وفاعل في زيادة أو نقصان معدلات الرخاء الاقتصادي والاجتماعي وأثر مباشر على معدلات الفقر.
وبالإشارة إلى بعض البيانات التي تم الاعلان الرسمي عنها خلال إطلاق الاستراتيجية، وبالاستناد إلى بيانات مسح إنفاق ودخل الأسرة 2017/2018 فقد أظهرت أن العشير الأغنى من الأسر الأردنية (أعلى 10% من الأسر الأردنية من حيث الإنفاق) أنفق حوالي 29.7% من مجموع الإنفاق الكلي، بينما أنفق العشير الأفقر (أقل 10% من الأسر من حيث الإنفاق) ما مجموعه 2.4% من مجموع الإنفاق فقط!.
كما أشارت البيانات التي تم الاعلان عنها أن 50% من الأسر الأردنية في المملكة التي تقع في النصف الأقل إنفاقًا من الأسر بلغ مجموع إنفاقها 24.6% من مجموع الإنفاق الكلي، أي أن إنفاق 50% من الأسر الأردنية مجتمعة كانت أقل من العشير الأغنى من الأسر، وأيضًا تشير الإحصاءات إلى أن نسب الفقر ارتفعت من 13.3% من السكان في العام 2008 إلى 15.7% من السكان في العام 2018.
أمام هذه الأرقام قد يتساءل البعض عن النموذج والنظام الاقتصادي المتبع للدولة، والسياسات الاقتصادية المنبثقة عنه، وهل ساهمت هذه السياسات الحكومية خلال العقود الماضية في تقليل التباين في الإنفاق بين الفئات الأغنى والأقل إنفاقًا وتقليل نسب الفقر والبطالة؟ وهل هناك انسجام بين مختلف السياسات الحكومية لتحقيق رؤية واضحة تستجيب إلى أولوياتها الاقتصادية والاجتماعية؟.
فبعض دول العالم تتبنّى نموذجًا اقتصاديًا واجتماعيًا متكاملًا من أجل تحقيق نجاحات اقتصادية واجتماعية متزامنة مع بعضها، مثل النموذج الإسكندنافي أو ما يسمى بنموذج الشمال “Nordic Model” والذي يعظم حقوق العمال بشكل كبير، ويزيد من الضرائب التصاعدية، ويسهم في توزيع الثروة والمساواة الاجتماعية بالتزامن مع تبني السياسات الاقتصادية التي تشجع حرية التملك، وفتح المجال أمام القطاع الخاص للمنافسة.
دول أخرى قد تتبنّى نموذجًا اقتصاديًا حرًا أقرب ما يكون للمطلق، يسعى دومًا إلى التقليل من الدور الاجتماعي في حماية حقوق العمال، ويؤيد وجود نظام ضريبي تصاعدي بالحد الأدنى، مما يعني أن الشرائح الأعلى دخلًا من السكان والشركات تؤدي ضريبة تصاعدية، ولكن أقل بكثير منها في الدول الاسكندنافية، وهو النموذج الاقتصادي الرائج في معظم الدول الأنجلوسكسونية.
وفي مناطق أخرى من العالم مثل بعض بلدان أقصى الشرق الآسيوي تبنّت الحكومات فيها النموذج الاقتصادي الرأسمالي الذي ترعاه الحكومة، بما يسمى النموذج الآسيوي الشرقي“East Asian Model”، وفي هذا النموذج تستثمر وترعى الحكومة قطاعات اقتصادية محددة لتحفيز النمو، وللمساهمة في تطور الأعمال، وخلق فرص العمل.
وهناك أمثلة أخرى ومتعددة لنماذج اقتصادية مختلفة من حول العالم تتباين فيما بينها، وتتبنّى مواقف وفلسفة متفاوتة تجاه السياسات والأولويات الاجتماعية المرتبطة بسوق العمل، والهيكل الضريبي وأثره على تركز الثروة أو إعادة توزيعها، والدور الذي تلعبه الحكومة في تقديم الخدمات الاجتماعية وحجم هذه الخدمات، وبسبب هذا التعدد تبرز الحاجة إلى وجود نموذج ونهج ورؤية اقتصادية طويلة الأمد للحكومات الأردنية المتعاقبة تستجيب في أهدافها للتحديات الاجتماعية.
لا شك أن الاستراتيجية الوطنية للحماية الاجتماعية تمثل خطوة في الاتجاه الصحيح لمجابهة الفقر وتوفير حزمة متكاملة من الخدمات للفئات الهشة والأكثر حاجة للمساعدات الحكومية، إلا أنها وحدها غير كافية لتحقيق تطلعات المواطنين لمستويات الرفاه الاجتماعي المرجوة.
إذ إن هناك حاجة ملحة بأن تتكامل هذه الاستراتيجية مع نموذج اقتصادي واضح المعالم يفرض السياسات الحكومية المناسبة بما فيها الاقتصادية في كافة القطاعات، بشكل ينسجم مع واقع المملكة الثقافي والاجتماعي ويلبي تطلعاتها الاقتصادية والاجتماعية على المدى البعيد.